• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أسحار رمضانيّة/ج16

نــزار حيدر

أسحار رمضانيّة/ج16

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

   إذن، نحن أمام نوع خاص من الفتن، فهي تصيب مجموعة خاصة من الناس، إلا انّ أثرها السيء يصيب كلّ المجتمع، ففي قصص الراوندي، طاب ثراه، بإسناده إلى الإمام الباقر (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع): أوحى الله تعالى جلّت قدرته إلى شعيا (ع) اني مهلك من قومك مائة الف، أربعين ألفاً من شرارهم وستين ألفا من خيارهم، فقال (ع) هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فقال: داهنوا أهل المعاصي فلم يغضبوا لغضبي.

   وانّ من أسوأ هذا النوع من الفتن هو الاستبداد السياسي الذي يبدأ عندما يطري المتملّقون على أفعال الحاكم بغير استحقاق، فيُفتتن الحاكم بكلامهم، كما يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): {رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ} لينمو عنده الشعور بالرضا بالنفس ليتحول شيئاً فشيئاً إلى اعتزاز بالنفس فغرور فاستبداد فطغيان، وعند ذلك تتحول الفتنة الفردية إلى فتنة اجتماعية تترك أثرها السيئ على كلِّ المجتمع فتكون مصداق للآية الكريمة، ولذلك نهى أمير المؤمنين (ع) المتملّقين ولو بشق كلمة فقال: {وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ، وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ، وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الاْطْرَاءَ، وَاسْتِماعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ ـ بِحَمْدِ اللهِ ـ كَذلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لله سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ}.

   وإنما شرع الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحيلولة دون نمو (الأنا) عند الحاكم من خلال الوقوف بوجهه والتصدي لتماديه السياسي قبل أن يتحول إلى استبداد يدمر المجتمع.

   فلماذا لا نجد لهذا المبدأ موقعاً في حياتنا السياسية؟ هل صحيح انّ بإمكان أحد أن يهرب من طغيان الحاكم؟ هل يتمكن أحد أن يغلق الباب على نفسه هرباً من الآثار السلبية التي يتركها استبداد الحاكم؟ أبداً، فكلّ تجارب الأمم والشعوب تجيب بالنفي، لأنّ الله عز وجل شاءت قدرته وحكمت إرادته على أن يكون المجتمع، أي مجتمع، منظومة واحدة، يؤثر ويتأثر كلّ جزء منها ببقية الأجزاء، من المستحيل أن يتصور أحد انّ بإمكانه الهرب من آثار الاستبداد والطغيان إذا ما نمى عند الحاكم، ولهذا السبب فانّ الآية الكريمة أعلاه تحذر أشد الحذر من مثل هذه الفتن، لينتبه المجتمع إلى تصرفات الحاكم، فيراقبه ويحاسبه ويواجهه بمجرد أن يبدر منه أي تصرف تُشٓمُّ منه رائحة الاستبداد والتسلّط غير المشروع والتفرد بالسلطة، قبل أن يستفحل ويتضخّم، فثمن تصحيح خطأ الحاكم وهو بعدُ صغير لم يستفحل أقل بكثير منه إذا ما تضخم الخطأ وتحول إلى سياسات ومناهج، فقد يكون ثمنها، عند ذاك، دمار البلاد وأنهار من الدماء.

   وكلنا يتذكر، أو على الأقل سمع وقرأ، كيف انّ الطاغية الذليل صدام حسين بدأ بالسلطة حقيراً تافهاً، إلا انّ سكوت المجتمع عن أفعاله التي بدأت تبدر منه لتشير إلى مساراته الاستبدادية والطغيانية، تارة بعنوان (ما لنا والدخول بين السلاطين) وأخرى بعنوان (كلّ من يتزوج أمي اسميه عمي) وثالثة بعنوان (اليد التي لا تستطيع أن تقطعها، قبّلها) ورابعة بعنوان (يكفي انني في مأمن وانّ عائلتي بعيدة عن طغيانه وجبروته) وهكذا، هي التي صنعت منه ديكتاتوراً فريداً من نوعه، لم ينج منه العراقيون إلا بالغزو والاحتلال، ولو انهم أخذوا على يديه بادئ ذي بدء لما تضخم طغيانه وتوسع استبداده إلى تلك الدرجة المعروفة.

   إلى جانب هذه العناوين، كان هناك عنوان آخر لا يقل خطورة عنها، وقد ساهم هو الآخر في صناعة الطاغوت، ألا وهو تقديم البعض لمصالحهم الخاصة على الصالح العام، من النفعيّين والوصوليين الذين يبحثون عمن يؤمّن لهم مصالحهم بغض النظر عن عنوانه وهويته وسياساته ومنهجياته، المهم أن يؤمّن مصالحهم ولتذهب البلد والمجتمع بعد ذلك إلى الجحيم، ولقد حدثنا القرآن الكريم عن هذا النوع من الناس الذين نسمّيهم بالأنانيين بقوله: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

   إلّا انّ التجربة اثبتت بأنّ كلَّ هؤلاء سيتضرّرون من الآثار السيئة التي تتركها سياسات الحاكم المستبد والطاغوت المتجبر، فلم يسلم منهم أحد أبداً، ولذلك ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار الصالح العام، الذي نحن جزء منه، عندما نتعامل مع السلطة، فنواجه خطأها لحظة وقوعه، ليس دفاعاً عن الآخرين فحسب وإنما دفاعاً عن أنفسنا لأننا جميعاً في مركب واحد إذا خٓرقهُ الحاكم أو أحد أعوانه فانه سيغرق ويُغرِقُنا معه، فلن يسلم أحدٌ منا، وهذا ما نراه اليوم في العراق، فالمركب يغرق ويغرق بسبب حماقات السياسيين ومن بيدهم السلطة، بعد أن استفحلت أخطاءهم للتحول إلى جرائم بحقِّ الشعب والوطن، بسبب سكوت الناس عنها وعدم إبداء أي رد فعل حقيقي يعادل الخطأ بصرخة مدوية تتحدى الحاكم وتأخذ على يديه.

   وإلى كلِّ الذين سكتوا أو داهنوا أو كذّبوا على الحاكم لإرضائه، أو غضّوا الطرف عن أخطائه لمصلحة خاصة أو برّروا له خوفاً على موقع أو منصب أو حفنة من المال الحرام، أو خشية فتح الملفات الملفّقة أو الحقيقية، لا فرق، إلى كلِّ هؤلاء أقول: لم يعد هناك من فرصة لتجنّب الآثار السلبية للفتنة، فلابد أن تدفعوا الثمن.

   وكلّ رمضان وأنتم بخير.

 

ارسال التعليق

Top